شـريـط الأخــبار:: مرحباً بكم في موسوعة المملكة العربية السعودية    
  البحــث
 
بحث متقدم


 
 

الصــور
السابق التالي
الخــرائط
السابق التالي
   
المنطقة: نجران
الباب: التطور التاريخي
الفصل: العصر الإسلامي
رئيس اللجنة العلمية: أ. د. محمد بن سليمان الخضيري ( أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية )
إعداد: أ. د. غيثان بن علي بن جريس ( أستاذ التاريخ بجامعة الملك خالد )
التحكيم العلمي: أ. د. ضيف الله بن يحيى الزهراني ( أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة أم القرى ) - أ. د. محمد بن سعيد الشعفي ( أستاذ التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج بجامعة الملك سعود ) - د. حميد بن إبراهيم المزروع ( أستاذ علم الآثار القديمة المشارك بجامعة الملك سعود )

الباب الثاني: التطور التاريخي

الصفحة الرئيسة » نجران » الباب الثاني: التطور التاريخي » الفصل الثاني: العصر الإسلامي » أولاً: العهد النبوي 1 - 11هـ / 622 - 632م

الفصل الثاني: العصر الإسلامي

أولاً: العهد النبوي 1 - 11هـ / 622 - 632م

عقب الهدنة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش في أثناء صلح الحديبية للمزيد عن صلح الحديبية، انظر: عبدالملك بن هشام، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا، وآخرون، (بيروت: دار القلم، د. ت)، جـ3، 321 - 329؛ محمد بن عمر الواقدي، كتاب المغازي، تحقيق: مارسدن جونس، (بيروت: عالم الكتب، 1965م)، جـ2، 571 - 573. ،   أخذ يبعث سفراءه إلى الأمصار في الشرق والغرب وإلى الشمال والجنوب يدعوهم إلى الإسلام عن سفارات الرسول صلى الله عليه وسلم وكتبه إلى ملوك وأمراء الأمصار والمناطق المجاورة انظر: محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، (بيروت: دار النفائس، 1405 هـ / 1985م)، 135 وما بعدها. ،   ومن هذه الأمصار التي بعث إليها، مدينة نجران، ففي سنة 10هـ / 631م بعث إلى نجران سرية بقيادة خالد بن الوليد قوامها 400 رجل، في ربيع الآخر من السنة المذكورة، وكانت السيادة بنجران بيد بني الحارث بن كعب علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، مرجع سابق، جـ4، 188، 189. .  

وقد أوصى خالدًا بأن يقيم بينهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام فإن أجابوا أقاموا بينهم ليعلموهم أساسيات ما جاء به الإسلام من تعاليم، مثل: التوحيد والصلاة والصيام، كما جاء في الكتاب والسنة وإن لم يجيبوا حاربهم خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق: أكرم ضياء العمري، (الرياض: دار طيبة، 1405 هـ / 1985م)، 94؛ أحمد بن يحيى البلاذري، أنساب الأشراف، تحقيق: محمد حميد الله، (القاهرة: معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف، د. ت)، جـ1، 384. .  

وقد وصلت سرية خالد إلى نجران، وصنع معهم كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنت، ولا سيما بنو الحارث بن كعب، وتبعتهم القبائل الأخرى، إلا النصارى فإنهم ظلوا على ديانتهم، وأقام المسلمون بين بني الحارث يعلمونهم الإسلام وشرائعه، وأخذوا الصدقات من أغنيائهم وردوها على فقرائهم محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار سويدان، د. ت)، جـ3، 126؛ غيثان بن علي بن جريس، نجران: دراسة تاريخية حضارية (ق 1 - ق 4 هـ / ق 7 - ق 10م)، (الرياض: مطابع العبيكان، 1425 هـ / 2004م)، جـ1 ، 63؛ حسين علي المسري، ''نجران ودورها السياسي والاقتصادي''، مجلة المؤرخ المصري، جامعة القاهرة، ع9، (القاهرة: 1992م)، 41 - 90. .  

وقد كان بنو الحارث بن كعب قد دخلوا في الإسلام، وكانوا قبل ذلك عازمين على قتال المسلمين وأعدُّوا له العدة، ولكن موقفهم تغير. ولعل السبب في ذلك يعود إلى عاملين رئيسين. الأول سياسي، فالدولة الإسلامية في هذه الفترة التي نتحدث عنها، وهي السنة العاشرة للهجرة، قد أصبحت قوة مرهوبة الجانب، لا سيما بعد فتح مكة والقضاء على سلطة قريش، فوجد أهل نجران أن من العبث محاربة المسلمين، فدخلوا الإسلام حقنًا لدمائهم. أما العامل الثاني فأسبابه دينية، والمعروف أن الديانة اليهودية، ثم المسيحية قد أخذتا طريقهما إلى جنوبي الجزيرة العربية، لا سيما مدينة نجران التي توجد بها كعبة نجران، وبعض الكنائس والأديرة، فكان بها عدد ممن يعتنقون المسيحية، ولا شك أن لهؤلاء تأثيرًا على القبائل الوثنية، خصوصًا عند المقارنة بين عبادتهم للحجارة وبين ما عليه النصارى من ديانة، وقد كانت هذه الفرصة مواتية عندما جاءت الدعوة إلى الإسلام التي تدعو إلى عبادة إله واحد، فكانت إيذانًا بتحول نجران إلى الإسلام وعبادة الله سبحانه وتعالى، فدخلوا الإسلام في غضون أيام قلائل.

وبعد نجاح خالد بن الوليد في مهمته سلمًا، وإقناعه أهل نجران بالدخول في الإسلام، بعث بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، وأنه مقيم بينهم تلبية لأوامره يعلمهم شرائع الإسلام، وهو في انتظار الجديد من تعليماته صلى الله عليه وسلم الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك ، مرجع سابق، جـ3، 127؛ ابن هشام، عبدالملك. السيرة النبوية، مرجع سابق، جـ4، 239؛ ابن جريس، غيثان بن علي. نجران: دراسة تاريخية حضارية، مرجع سابق، 64. ،   فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة يخبره من خلالها بوصول كتابه المتضمن نبأ إسلام أهل نجران ويأمره بالعودة إلى المدينة، وبصحبته وفد من مسلمي نجران الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 126، 127؛ محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، (بيروت: دار صادر، 1405 هـ / 1985م)، جـ1، 339. .  

فلما وصل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد، أخبر بني الحارث بن كعب برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابلة وفدهم، فشكلوا الوفد من أشرافهم، ثم جاء خالد إلى المدينة وبرفقته وفد نجران الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 127. ،   ويمدنا الطبري بأسماء أعضاء الوفد النجراني، وكان عددهم ستة أشخاص، هم: قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذو الغصة سمي بذي الغصة، لغصة كانت تعتريه في حلقه حين يتكلم، وكان فارساً من ذوي الرباع؛ أي الذين كانوا يأخذون ربع الغنيمة التي يغنمها قومه في حروبهم مع غيرهم حضرها أم لم يحضرها. انظر: ابن هشام، عبدالملك. السيرة النبوية، مرجع سابق، جـ4، 241. ،   ويزيد بن عبدالمدان الحارثي، ويزيد بن المحجل، وعبدالله بن قريظ الزيادي، وشداد بن عبدالله القناني، وعمرو بن عبدالله الضبابي الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 127؛ وللمزيد انظر: ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 339؛ المسري، حسين علي، ''نجران ودورها السياسي والاقتصادي''، مجلة المؤرخ المصري، مرجع سابق؛ علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب، مرجع سابق، جـ4، 188؛ ابن جريس، غيثان. نجران: دراسة تاريخية حضارية، مرجع سابق، جـ1، 65. .  

وعندما وقفوا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم سلموا عليه، ثم قالوا: "نشهد أنك رسول الله وأن لا إله إلا الله، فقال رسول الله: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله..."، وذكر ابن سعد في (الطبقات) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم وفد نجران ووزع عليهم الجوائز، فأعطى كل واحد منهم عشر أواقٍ، ما عدا قيس بن الحصين، إذ أعطاه اثنتي عشرة أوقية، وجعله أميرًا عليهم ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 339، 340. .  

وقد عرف بنو الحارث في الجاهلية بالشجاعة والإقدام، وشدة البأس، والصبر في الحروب، فما حاربهم أحد إلا انتصروا عليه، وكذلك اشتهروا بالكرم، والعدالة، وطيب الأخلاق والتعاون فيما بينهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ما تواتر عنهم من تلك الصفات، فأراد أن يقف على ذلك بنفسه، ويعرف سر انتصاراتهم في الحروب، فواصل الحديث معهم بقوله: " بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: لم نكن نغلب أحدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قد كنتم تغلبون من قاتلكم، قالوا: يا رسول الله، كنا نغلب من قاتلنا، أنا كنا بني عبيد، وكنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدًا بظلم، قال: صدقتم " أبوالفداء إسماعيل ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق: أحمد أبو ملحم، وآخرون، (بيروت: دار القلم، د.ت)، مج3، جـ5، 89، 90؛ الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 128، 129. .  

وفي نهاية المقابلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم عاد وفد الحارث بن كعب إلى بلادهم نجران في أواخر شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة ابن هشام، عبدالملك. السيرة النبوية، مرجع سابق، جـ4، 240؛ الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 128؛ ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل. البداية والنهاية، مرجع سابق، مج3، جـ5، 89، 90. .   كما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل نجران في حاجة إلى من يبصرهم بتعاليم الإسلام ويفقههم في أمور الدين، ويفسر لهم ما جاء في الكتاب والسنة من التعاليم وكيفية أخذ الصدقات، وكان الأوفق أن يبعث إليهم بمن يقوم بهذه المهمة، فاختار عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي الأنصاري، ويرافقه شخص من بني النجار، وكان عمرو حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السابعة عشرة من عمره البلاذري، أحمد بن يحيى. أنساب الأشراف، مرجع سابق، 538، 539؛ ابن جريس، غيثان. نجران: دراسة تاريخية حضارية، مرجع سابق، جـ1، 69. ،   متمتعًا بالذكاء، وسعة العلم بأمور الدين، والتفقه فيه، وقد زوده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى أهل نجران؛ وهو عقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه، يتعهد فيه عمرو أن يعمل بما جاء في هذا الكتاب. ويتضمن هذا الكتاب مجموعة من التشريعات والتنظيمات تتصل بالحياة الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وواضح أن الهدف من هذه التنظيمات أن تكفل حياة كريمة آمنة لمجتمع نجران انظر نص هذا الكتاب عند: ابن هشام، عبدالملك. السيرة النبوية، مرجع سابق، جـ4، 241، 242؛ الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 128، 129؛ عبدالرحمن ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، وسهيل زكار، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر، 1401 هـ / 1981م)، جـ2، 473، 474؛ حميد الله، محمد. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، مرجع سابق، 207، 208. .  

ويبدو أن عمرو بن حزم كان وثيق الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يطلعه حتى على أموره الخاصة، فقد بعث إليه ذات مرة برسالة يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رزق بمولود ذكر سَمّاه "محمدًا " تيمنًا برسول الله، وكنّاه بأبي سليمان، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: بل كنِّه بأبي عبدالملك، وظل عمرو بن حزم عاملاً على نجران إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليها الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 130؛ البلاذري، أحمد بن يحيى. أنساب الأشراف، مرجع سابق، جـ1، 538، 539؛ علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب، مرجع سابق، جـ4 ، 191؛ حميد الله، محمد. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، مرجع سابق، 211؛ ابن جريس، غيثان. نجران: دراسة تاريخية حضارية، مرجع سابق، جـ1، 71. .  

ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة أهل نجران ومن حولهم من قبائل اليمن على تلك السرية التي أرسلها تحت قيادة خالد بن الوليد الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 126؛ ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 339؛ ابن هشام، عبدالملك. السيرة النبوية، مرجع سابق، جـ4، 239.   وإنما حث خالد بن الوليد على أن يسير إلى أرض اليمن الواقعة إلى الجنوب من بلاد نجران، وقد فعل ذلك، واستمر يدعوهم إلى الإسلام مدة ستة أشهر، لكنهم لم يتجاوبوا معه، وبقوا على وثنيتهم الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 129، 130، ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون، مرجع سابق، جـ2، 475؛ علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب، مرجع سابق، جـ4، 189 وما بعدها. ،   فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية أخرى بقيادة علي بن أبي طالب إلى اليمن، وأمره بأن يعود خالد بن الوليد ومن معه إلى المدينة، وإن أراد أحد من رجال خالد بن الوليد البقاء مع سريته - يقصد عليًا بن أبي طالب - فليتركه الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 132؛ علي بن أبي الكرم ابن الأثير، الكامل في التاريخ،تحقيق: نخبة من العلماء، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1405 هـ / 1985م)، جـ2، 205 ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبى طالب: (مر أصحاب خالد من شاء منهم يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل...) ابن كثير، إسماعيل. البداية والنهاية، مرجع سابق، مج3، جـ5، 93. .   وعندما سمعت قبائل اليمن بمسيرة علي بن أبي طالب نحوها استعدت لقتاله، وعند وصوله بلاد اليمن، جمع رجاله فصلى بهم، ثم حثهم على قتال المشركين، ومن يحارب الله ورسوله من أهل اليمن، ثم واجه بعض القبائل اليمنية، فأنذرهم، وقرأ عليهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في ذلك اليوم للمزيد عن قبيلة همدان، انظر: هشام بن محمد بن السائب بن الكلبي، نسب معد واليمن الكبير، تحقيق: ناجي حسن، (بيروت: عالم الكتب، 1408 هـ / 1988م)، جـ2، 509؛ علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، جمهرة أنساب العرب، راجعه: لجنة من العلماء بإشراف الناشر، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1403 هـ / 1983م)، 392 - 395، 475؛ الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، صفة جزيرة العرب، تحقيق: محمد بن علي الأكوع (الرياض: منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، 1397 هـ / 1977م)، 96 - 105. ،   فكتب علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بإسلام همدان، فحمد النبي صلى الله عليه وسلم الله، وأثنى عليه، وخَرّ ساجدًا شكرًا لله، ثم جلس وقال: "السلام على همدان" ثلاث مرات الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 132؛ ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون، مرجع سابق، جـ2، 475؛ ابن كثير، إسماعيل. البداية والنهاية، مرجع سابق، مج3، جـ5، 94. .  

ويتضح لنا من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على أن ينتشر الإسلام في جنوبي الجزيرة العربية وغيرها وصولاً إلى تحقيق عالمية الإسلام، فلم يقتصر على دخول أهل نجران في الإسلام، وإنما كان ذلك بمنـزلة مرحلة أولى في طريق دخول الإسلام إلى كل أصقاع اليمن، حيث نراه يعقب على سرية خالد بسرية جديدة على رأسها علي بن أبي طالب، بعد أن تعسر على خالد إقناع اليمنيين في جنوب نجران بالدخول في الإسلام، فنجحت هذه السرية في إدخال همدان سلمًا في الإسلام.

كما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه في مهمة أخرى في السنة العاشرة أيضًا، وكانت المهمة تلك المرة إلى أهل نجران ابن هشام، عبدالملك. السيرة النبوية، مرجع سابق، جـ4، 247؛ ابن خياط، خليفة. تاريخ ابن خياط، مرجع سابق، 97؛ ابن الأثير، علي بن أبي الكرم. الكامل في التاريخ، مرجع سابق، جـ2، 205؛ كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على تزويد عماله بالتعليمات الشرعية الأساسية التي يسيرون عليها، فنجده يزود معاذ بن جبل ببعض تلك النصائح والتعليمات عندما اختاره عاملاً على اليمن، فيقول لـه: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)؛ ابن كثير، إسماعيل. البداية والنهاية، مرجع سابق، مج3، جـ5، 90؛ وللمزيد عن رحلة معاذ بن جبل من حاضرة الدولة الإسلامية (المدينة المنورة) إلى الطائف ثم بلاد السراة إلى نجران حتى دخل صنعاء، انظر: عمر بن علي الجعدي بن سمرة، طبقات فقهاء اليمن، تحقيق: فؤاد سيد، (بيروت: دار القلم، د. ت)، 17، 18؛ الهمداني، الحسن بن أحمد بن يعقوب. صفة جزيرة العرب، مرجع سابق، 144؛ ابن جريس، غيثان. نجران: دراسة تاريخية حضارية، مرجع سابق، جـ1، 72.   ليجمع الصدقات من المسلمين، ويأخذ الجزية من أهل الذمة.

أما نصارى نجران الذين ظلُّوا على نصرانيتهم يذكر أن المسيحية لم تنتشر في أهل نجران خاصة، وأهل اليمن عامة إلا في قلة من الناس، والدليل على ذلك أن الكتاب المقدس لم يترجم إلى العربية في عصر ما قبل الإسلام، بينما ترجم إلى لغات البلاد التي انتشرت فيها المسيحية انتشاراً واسعاً، وهذا يؤكد على أن كنيسة نجران وغيرها من الكنائس في اليمن استخدمت اللغة العربية، وربما أنها استخدمت السريانية أو العبرية. عصام الدين عبدالرؤوف الفقي، اليمن في ظل الإسلام منذ فجر الإسلام حتى قيام دولة بني رسول، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1414 هـ / 1994م)، 253. ،   ولم يدخلوا في الإسلام مع من دخل من أهل نجران، فقد بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتابًا موجهًا إلى أساقفتهم، قال فيه: " بسم الله، من محمد رسول الله إلى أساقفة نجران: بسم الله، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، أما بعد ذلكم فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أنتم أبيتم فالجزية، وإن أبيتم آذنتكم بالحرب، والسلام" أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، (بيروت: دار بيروت، 1400 هـ / 1980م)، جـ2، 81؛ الفقي، عصام الدين عبدالرؤوف. اليمن في ظل الإسلام، مرجع سابق، 254. .   ويتضح من هذا الكتاب أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن لهم ما يجب عمله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، فإن لم يرضوا بهذا المطلب النبيل فإن عليهم دفع الجزية، فإن امتنعوا عن هذا أيضًا فليس بينهم وبين المسلمين إلا الحرب حتى يذعنوا لواحد من هذين الشرطين.

وبعد وصول كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران علموا وتأكدوا من جدِّية الرسول صلى الله عليه وسلم في مطلبه، فاجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم، ووصلوا في نهاية اجتماعهم إلى إرسال وفد من أعيانهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليناقشوه ويعرفوا حقيقة الأمور منه بشكل مباشر ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 357؛ علي بن الحسين بن علي المسعودي، التنبيه والإشراف، إشراف وتحقيق: لجنة تحقيق التراث، (بيروت: دار ومكتبة الهلال، 1981م)، 255؛ ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون، مرجع سابق، جـ2، 477. .  

وقد اختلفت المصادر في ذكر عدد أفراد وفد نصارى نجران، فمنهم من قال: إن عددهم أربعة عشر رجلاً من رؤسائهم وأشرافهم ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 357.   ومنهم من قال: إن عددهم ستون المسري، حسين علي، '' نجران ودورها السياسي والاقتصادي '' ، مجلة المؤرخ المصري، مرجع سابق،ع9 ، 61؛ ابن جريس، غيثان. نجران: دراسة تاريخية حضارية، مرجع سابق، جـ1، 75 . ،   وآخرون قالوا: أربعون حميد الله، محمد. مجموعة الوثائق السياسية، مرجع سابق، 183؛ انظر أيضاً: أبوالفداء إسماعيل بن كثير، تفسير القرآن الكريم، (بيروت:دار المعرفة، 1412 هـ / 1991 م)، جـ1، 376. ،   فيما يشير ابن خلدون إلى أن عددهم سبعون نصرانيًا ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون، مرجع سابق، جـ2، 477. .  

والاختلاف الذي وقع فيه المؤرخون حول عدد أفراد هذا الوفد، غير ذي أهمية، والمهم أنهم جميعًا أجمعوا على خروج وفد نجران النصراني إلى المدينة لأجل مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنهم قد ذكروا بعض أسماء الوفد، مثل أميرهم العاقب، واسمه عبدالمسيح؛ وهو من قبيلة كندة، وأسقفهم وزعيمهم الروحي أبي الحارث بن علقمة ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 357، ويذكر ابن خلدون، أن اسمه أبوحارثة بن بكر بن وائل، انظر: ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون، مرجع سابق، جـ2، 447. ،   وأخيه كرز بن علقمة من قبيلة بني الحارث ابن جريس، غيثان. نجران: دراسة تاريخية حضارية، مرجع سابق، جـ1، 76. ،   وصاحب إدارة شؤونهم المالية، السيد ابن الحارث ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 357؛ ويذكر ابن خلدون، أن اسمه أيضاً الأيهم، والسيد معاً، انظر: ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون، مرجع سابق، جـ2، 447.   وأخيه أوس، وعدد آخر ورد ذكرهم في بعض المصادر التي أشارت إلى هذا الوفد ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى. مرجع سابق، 357؛ ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون، مرجع سابق، جـ2، 477؛ ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل. تفسير القرآن الكريم، مرجع سابق، جـ1، 376. .  

ويبدو أن بعض أفراد هذا الوفد كان عالمًا بصحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا هو زعيمهم الروحي أبوالحارث بن علقمة يعترف لأخيه كرز بن علقمة بشكل واضح وصريح بذلك، حيث ترجم له ابن سعد في طبقاته فيقول عنه:

" كان أسقفهم وإمامهم، وصاحب مدارسهم، وله فيهم قدر، فعثرت به بغلته وهم في طريقهم مع بقية الوفد متجهين إلى الحجاز لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم ، انظر: ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 165. ،   فقال أخوه: تعس الأبعد، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الحارث بل تعست أنت، أتشتم رجلاً من المرسلين؟ إنه الذي بشر به عيسى، وإنه لفي التوراة، قال: فما يمنعك من دينه؟ قال: شرّفنا هؤلاء القوم، وأكرمونا، وموّلونا وقد أبوا إلا خلافه يقصد الروم، انظر: ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل. تفسير القرآن الكريم، مرجع سابق، جـ1، 376. ،   فحلف أخوه (كرز) ألا يثني له صعرًا حتى يقدم المدينة فيؤمن به انظر: ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 164، 165؛ ابن جريس، غيثان. نجران: دراسة تاريخية حضارية، مرجع سابق، جـ1، 76.   ومضى يضرب راحلته ويقول:

إلَيْكَ يَغْدو قَلِقًا وضِينُها
مُعْتَرِضًا في بَطْنِهَا جَنيِنُها
مُخالِفًا دِينَ النّصَارى دينُها ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 165.  

ويتضح لنا من النص السابق أن أهل العلم من نصارى نجران يعلمون صحة ما ورد في كتبهم حول صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ورغم ذلك لا يستطيعون الدخول في دين الإسلام، وذلك لما لهم من صلات سياسية، وعقدية واقتصادية مع إمبراطورية الروم التي نشرت المسيحية في بلاد اليمن عامة، وفي بلاد نجران خاصة، وبالتالي فإنهم جعلوا نصارى نجران مسؤولين عن الدفاع عن النصرانية في بلادهم وما حولها، ومقابل ذلك فإنهم كانوا يغدقون عليهم العطايا والمنح المتنوعة من أجل الحصول على ولائهم، والبقاء تابعين لهم سياسيًا وعقديًا، وذلك يتضح في عبارة أبي الحارث، عندما قال عن الروم: " شرفنا هؤلاء القوم، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه" المرجع السابق. وللمزيد عن علاقة نصارى نجران بالروم، انظر:عبدالمجيد عابدين، بين الحبشة والعرب، (القاهرة: دار الفكر، د. ت)، 49، علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب، مرجع سابق، جـ3، 449 وما بعدها. .  

وهذا كرز بن علقمة، نراه يطلع على ضلال أخيه، أبي الحارث، ومخالفته الفطرة السليمة، فيتركه ويسبقه ووفده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيدخل الإسلام، وربما اكتشف بعض أعضاء الوفد وغيرهم من نصارى نجران تلك الحقيقة التي كان يعرفها أبوالحارث بن علقمة؛ مما جعلهم يتركون دين النصرانية ويدخلون دين الإسلام، وأكبر دليل على ذلك ما فعله العاقب والسيد اللذان دخلا الإسلام بعد مقابلتهما الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.

وصل وفد نصارى نجران إلى المدينة بعد صلاة العصر والرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، وكان عليهم ثياب الحبرة الحبرة: يقال: إنها ضرب من بُرد اليمن منمر الشكل، وهي نوع من الألبسة الجيدة والغالية الثمن، جمال الدين أبوالفضل ابن منظور، لسان العرب، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1408 هـ / 1988م)، جـ3، 16، 17. ،   وأردية مكفوفة بالحرير، وفي أعناقهم وأيديهم الصليب، ثم أقاموا في المسجد يصلون نحو المشرق، فعزم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منعهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوهم اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب. تاريخ اليعقوبي، مرجع سابق، جـ2، 82؛ ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 357. .   ويذكر ابن سعد أنهم جاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بهيئتهم الآنفة الذكر فأعرض عنهم ولم يكلمهم، فقال لهم عثمان بن عفان: "ذلك من أجل زَيِّكُم هذا" فانصرفوا ذلك اليوم، وجاؤوا اليوم الثاني وعليهم زي الرهبان المرجع السابق، 357، 358. .  

وكانوا قد اتصلوا ببيت المدراس لليهود، والتقوا ببعض زعمائهم، مثل: الكاهن اليهودي، المسمى ابن صوريا، وكعب بن الأشرف وقالوا لهم: هذا الرجل - يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم - عندكم منذ كذا وكذا قد غلبكم، احضروا امتحانًا له غدًا. معتقدين أن ائتلافهم مع اليهود قد يجعلهم أصحاب الريادة والتفوق عندما يغلبون الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعند مقابلتهم الرسول صلى الله عليه وسلم دارت بينهم مناقشات متعددة حول السيد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، وحول الإسلام، ثم دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال السيد والعاقب:" إنا قد أسلمنا قبلك. فقال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث: أكلكما الخنـزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما لله ولد. قالا: فمن أبو عيسى؟ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعجل حتى يأمره ربه" أحمد بن يحيى البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق: رضوان محمد رضوان، (بيروت:دار الكتب العلمية، 1403 هـ / 1983م)، 75 ، وللمزيد، انظر: ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 357. كما أن هناك بعض الاختلافات البسيطة في ذكر الرواية، اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب. تاريخ اليعقوبي، مرجع سابق، جـ2، 82؛ ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل. تفسير القرآن الكريم، مرجع سابق، جـ1، 376، 377. ،   ثم قال: هو عبد الله ورسوله. فقال أسقفهم أبو الحارث: " تعالى الله عمّا قلت، وهل رأيت ولدًا من غير ذكر" اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب. تاريخ اليعقوبي، مرجع سابق، جـ2، 82؛ محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، تفسير الكشاف، تحقيق: محمد مرسي عامر، (القاهرة: دار المصحف، 1397 هـ / 1977م)، جـ1، 177، 178. .   ويورد ابن كثير بعض التفصيلات عن هذا اللقاء، ويشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صمت ولم يجبهم عندما سألوه من هو أبو عيسى، ويتابع ابن كثير قائلاً: " فأنـزل الله في ذلك قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها... " ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل. تفسير القرآن الكريم، مرجع سابق، جـ1، 376.   حيث ردّ الله عز وجل سؤالهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﭿ ﭿﭿ سورة آل عمران، الآيتان: 58، 59.   إلى قوله تعالى: ﭿ ﭿﭿ سورة آل عمران، الآية: 61. انظر: الزمخشري، محمود بن عمر. تفسير الكشاف، مرجع سابق، جـ1، 178. ،   ويذكر ابن كثير في تفسير هذه الآيات، أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من المباهلة المباهلة، جاءت من فعل (بهل) والبهل هو اللعن، يقال بهله الله بهلاً أي لعنه، وعليه بهلة الله أي لعنته، ويذكر في حديث أبي بكر الصديق (رض) أنه قال: من ولي من أمور الناس شيئاً فلم يعطهم كتاب الله، فعليه بهلة الله؛ أي لعنته. والمباهلة هي الملاعنة، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. انظر: ابن منظور، جمال الدين أبوالفضل. لسان العرب، مرجع سابق، جـ1، 522. ،   وملاعنتهم، قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: " يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه " ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل. تفسير القرآن ا لكريم، مرجع سابق، جـ1، 377 - 378؛ ابن منظور، جمال الدين أبوالفضل. لسان العرب، مرجع سابق، جـ1، 178. .  

وتذكر بعض المصادر التاريخية أن اليهود في المدينة كانوا يراقبون تلك المناقشات التي دارت مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشاهدونها عندما طلب نصارى نجران من الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الوقت ليفكروا في قبول المباهلة أو تركها، بل كانوا فرحين بما وصل إليه الأمر، ويودون هلاك الطائفتين، وفي ذلك يقولون: " والله ما نبالي أيهما أهلك الله: الحنيفية أو النصرانية".

وبعد ذهاب نصارى نجران من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا بالعاقب، وكان صاحب رأي قاطع بينهم فقالوا: " يا عبدالمسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمدًا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم - يقصد عيسى عليه السلام - ولقد علمتم أنه ما لاعَنَ قومٌ نبيًا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلاّ إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فواعدوا الرجل، وانصرفوا إلى بلادكم" ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل. تفسير القرآن الكريم، مرجع سابق، جـ1، 376 - 377. .  

ويورد اليعقوبي أن وفد نجران قبلوا المباهلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما جاء اليوم الثاني، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بيد سبطيه الحسن والحسين، تتبعه فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجاء العاقب والسيد بابنين لهما عليهما الدّر والحلي، وقد التفوا بأبي الحارث، فقال أبو الحارث:"من هؤلاء معه؟ قالوا: هذا ابن عمه، وهذه ابنته، وهذان ابناه، فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، ثم ركع، فقال أبو الحارث: جثا والله كما يجثو النبيون للمباهلة، فقال له السيد: اُدنُ يا أبا حارثة للمباهلة، فقال إني أرى رجلاً حريًا على المباهلة وإني أخاف أن يكون صادقًا، فإن كان صادقًا لم يحلِ الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الطعام" اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب. تاريخ اليعقوبي، مرجع سابق، جـ2، 82 - 83. ويورد الزمخشري أن أباالحارث، عندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوم خرج للمباهلة قال: (يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة)، انظر: الزمخشري، محمود بن عمر. تفسير الكشاف، مرجع سابق، جـ1، 178. ويذكر البلاذري أنه: قال: (أحدهما لصاحبه - يقصد نصارى نجران - اصعد الجبل ولا تباهله، فإنك إن باهلته بؤت باللعنة، قال: فما ترى؟ قال:أرى أن نعطيه الخراج ولا نباهله؛ البلاذري، أحمد بن يحيى. فتوح البلدان، مرجع سابق، 75، 76؛ ابن الأثير، علي بن أبي الكرم. الكامل في التاريخ، مرجع سابق، جـ2، 200. .  

ولهذا تراجعوا عن مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال أسقفهم أبوالحارث للرسول صلى الله عليه وسلم: " لا نباهلك فأنت على دينك ونحن على ديننا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذًا أبيتم المباهلة، فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم، فرفضوا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم إذًا أحاربكم، فقالوا: "نصالحك على ألا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة الحلة تساوي الأوقية، ووزن الأوقية أربعون درهماً من الفضة. البلاذري، أحمد بن يحيى. فتوح البلدان، مرجع سابق، 76. ،   ألف في صَفر وألف في رجب".

فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فصالحهم على ذلك وكتب لهم كتابًا أوضح فيه شروط هذا الصلح، وقد أشارت مصادر التاريخ إلى هذا الصلح، فبعضهم نقله نصًا بما يعتقد أنه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء اليعقوبي، والبلاذري، وابن سعد اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب. تاريخ اليعقوبي، مرجع سابق، جـ2، 83؛ البلاذري،أحمد بن يحيى. فتوح البلدان، مرجع سابق، 76، ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 358؛ للمزيد من التفصيلات، انظر: حميد الله، محمد. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، مرجع سابق، 175 - 179. ،   فيما نقله آخرون من المصادر دون التزام منهم بنقل نص هذا الصلح. وإنما اكتفى بنقل ما ورد في هذا الصلح من الشروط، ومن هؤلاء ابن الأثير، وابن خلدون ابن الأثير، علي. الكامل في التاريخ، مرجع سابق، جـ2، 200؛ ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون، مرجع سابق، جـ2، 477. .  

ففي هذا الصلح أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اتفق عليه نصارى نجران بدءًا من دفعهم الحلل في شهري صفر ورجب من كل عام، وهي ألفا حلة، قيمة كل حلة 40 درهمًا من الفضة، وأن يساعدوا المسلمين إذا ما وقعت حرب باليمن، بأن يمدوهم بالأسلحة فقط دون الاشتراك معهم في الحرب، وأن ينصحوا المسلمين، ولا يُؤخذ أحد بخيانة غيره. وحرم عليهم التعامل بالربا، فمن عمل به بعد هذا الاتفاق، فقد نقض الصلح، فتكون ذمة محمد صلى الله عليه وسلم منه بريئة انظر: البلاذري، أحمد بن يحيى. فتوح البلدان، مرجع سابق، 76؛ ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، مرجع سابق، جـ1، 358؛ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب. تاريخ اليعقوبي، مرجع سابق، جـ2، 83. .  

لقد ارتد بعض أهل نجران عن الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد الأسود العنسي، فقد كان مشعوذًا بارعًا في الكلام، وقدِ ادّعى النبوة انظر: الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 23،185؛ مطهر بن طاهر المقدسي، كتاب البدء والتاريخ، تحقيق: س. هورت، (باريس: 1916م)، و (صور مكتبة المثنى، بغداد، د. ت)، جـ5، 154؛ ابن الأثير، علي. الكامل في التاريخ، مرجع سابق، جـ2، 215. ،   فانخدعت به قبائل نجران وغيرها من قبائل اليمن، وكانت بداية ظهوره وادعائه النبوة في السنة الحادية عشرة من الهجرة، بعد حجة الوداع لما علم بمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه إلى المدينة البلاذري، أحمد بن يحيى. فتوح البلدان، مرجع سابق، 113؛ نـزار عبداللطيف الحديثي، أهل اليمن في صدر الإسلام، (بيروت:المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د.ت)، 115. ،   وقد تعاطف أهل نجران معه وأيدوه، فلما علم بنو الحارث بن كعب وقبائل مذحج دعوه إلى بلادهم، فقدم إليهم على رأس قوة عسكرية بلغ عددها خمسة آلاف مقاتل جميعهم من قبائل حِمْيَر الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 230 - 235؛ محمد عبدالمنعم الحميري، الروض المعطار في أخبار الأقطار، تحقيق: إحسان عباس، (بيروت: مكتبة لبنان، 1975م)، 574 . ،   وتمكن من دخول نجران، وكان عمرو بن حزم عاملاً عليها من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج منها متوجهًا إلى المدينة الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 185 - 187؛ ابن الأثير، علي. الكامل في التاريخ، مرجع سابق، جـ2، 215؛ ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل، البداية والنهاية، مرجع سابق، مج3، جـ6، 312. .  

وقد مكث الأسود العنسي أيامًا بنجران، ثم تحول عنها إلى صنعاء؛ لأنها أكثر حصانة من نجران، ورحل معه ستمئة فارس من بني الحارث بن كعب مؤيدين إياه ومناصرين، وقد واجه مقاومة عنيفة من الأبناء؛ وهم المسلمون من الفرس الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 185؛ سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي، تاريخ الردة، جزء مقتبس من كتاب: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي الخلفاء، اقتبسه وحققه: خورشيد فاروق أحمد، (الهند: معهد الدراسات الإسلامية، د. ت)، 151، 152. ،   ومن قبائل اليمن التي تمسكت بإسلامها فكذبوا مزاعمه، وقد قاد هذه المقاومة شهر بن باذان ابن والي اليمن السابق، ولكن الأسود العنسي كان أقوى منه فقضى عليه، فقتل القائد شهر بن باذان، واستولى الأسود على صنعاء البلاذري،أحمد بن يحيى. فتوح البلدان، مرجع سابق، 113؛ المقدسي، مطهر بن طاهر. كتاب البدء والتاريخ، مرجع سابق، جـ5، 229؛ ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل. البداية والنهاية، مرجع سابق، مج3، جـ6 ، 311، 312. .  

كما استفحل أمر الأسود باليمن، واتسع نفوذه فشمل نجران، والطائف، وصنعاء، وحضرموت، وعدن وامتد نحو الشرق حتى شمل البحرين، وأجزاء أخرى من الخليج العربي، وقد اضطربت أوضاع المسلمين باليمن، وأصابهم الخوف الشديد من بطش الأسود العنسي، فكانوا يتعاملون معه بحذر ليأمنوا على أرواحهم الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 230؛ ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل. البداية والنهاية، مرجع سابق، مج3، جـ6، 312. ،   حيث شكلت حركة الأسود العنسي خطرًا جسيمًا على الإسلام والمسلمين باليمن؛ ربما لأنها حدثت في فترة حرجة من تاريخ الدولة الإسلامية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قائد الأمة ورئيس الدولة كان على فراش المرض، هذا فضلاً عن الأوضاع المضطربة داخل اليمن، فهناك من لم يدخل الإسلام أو دخله ثم ارتد، وهناك من ظل على إسلامه، وهؤلاء يشكلون العدد القليل إلى جانب أهل الذمة. في ظلِّ هذه الظروف السيئة التي تمر بها الأمة الإسلامية قامت حركة الأسود العنسي، إلا أن هذه الحركة لم يُكتب لها النجاح في النهاية للمزيد انظر: الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 230، 231؛ ابن خلدون، عبدالرحمن. تاريخ ابن خلدون مرجع سابق، جـ2، 482. .  

وقد تصدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحزم وقوة لهذه الحركة، حيث وجه نداء إلى المسلمين المحاصرين بنجران وإلى قادة المسلمين في اليمن يحثهم على الصبر وتوحيد الصفوف ليتمكنوا من قهر عدوهم، والطبري ينقل لنا نص هذه الرسالة:" إلى أهل نجران، إلى عربهم وساكن الأرض من غير العرب، فاثبتوا وانضموا إلى مكان واحد" الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، جـ3، 232. .   ويعني بساكن الأرض المسلمين من غير العرب؛ وهم الفرس وقد عرفوا بالأبناء الأبناء: من أبناء فارس دخلوا اليمن مع سيف بن ذي يزن الحميري، وأطلق عليهم هذا الاسم - فيما بعد - لأنهم استقروا باليمن وتزوجوا، ثم صار أبناء أبنائهم يطلق عليهم الأبناء، لأنهم من أبناء أولئك الفرس، ولأن أمهاتهم من أجناس غير فارسية، وعندما جاء الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، انظر: ابن منظور، جمال الدين أبوالفضل. لسان العرب، مرجع سابق، جـ1، 508، فعل (بني). .  

وكان لهذه الرسالة التي وصلت إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم التأثير البالغ على نفوسهم، إذ أعادت إليهم الثقة والطمأنينة، كما أزالت الخوف والرعب من قلوبهم فتحركوا موحدي الهدف ضد الأسود العنسي، فتمكنوا من دحره والقضاء على حركته.

السابق   التالي
جميع الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبد العزيز العامة © م